الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
فأما انتصار الإيمان والحق في النهاية فأمر تكفل به وعد الله.وما يشك مؤمن في وعد الله. فإن أبطأ فلحكمة مقدرة، فيها الخير للإيمان وأهله. وليس أحد بأغير على الحق وأهله من الله. وحسب المؤمنين الذين تصيبهم الفتنة، ويقع عليهم البلاء، أن يكونوا هم المختارين من الله، ليكونوا أمناء على حق الله. وأن يشهد الله لهم بأن في دينهم صلابة فهو يختارهم للابتلاء:جاء في الصحيح: «أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد له في البلاء».وأما الذين يفتنون المؤمنين، ويعملون السيئات، فما هم بمفلتين من عذاب الله ولا ناجين. مهما انتفخ باطلهم وانتفش، وبدا عليه الانتصار والفلاح. وعد الله كذلك وسنته في نهاية المطاف:{أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون}.فلا يحسبن مفسد أنه مفلت ولا سابق، ومن يحسب هذا فقد ساء حكمه، وفسد تقديره، واختل تصوره. فإن الله الذي جعل الابتلاء سنة ليمتحن إيمان المؤمن ويميز بين الصادقين والكاذبين؛ هو الذي جعل أخذ المسيئين سنة لا تتبدل ولا تتخلف ولا تحيد.وهذا هو الإيقاع الثاني في مطلع السورة، الذي يوازن الإيقاع الأول ويعادله. فإذا كانت الفتنة سنة جارية لامتحان القلوب وتمحيص الصفوف، فخيبة المسيئين وأخذ المفسدين سنة جارية لابد أن تجيء.أما الإيقاع الثالث فيتمثل في تطمين الذين يرجون لقاء الله، ووصل قلوبهم به في ثقة وفي يقين:{من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت وهو السميع العليم}.فلتقر القلوب الراجية في لقاء الله ولتطمئن؛ ولتنتظر ما وعدها الله إياه، انتظار الواثق المستيقن؛ ولتتطلع إلى يوم اللقاء في شوق ولكن في يقين.والتعبير يصور هذه القلوب المتطلعة إلى لقاء الله صورة موحية. صورة الراجي المشتاق، الموصول بما هناك. ويجيب على التطلع بالتوكيد المريح. ويعقب عليه بالطمأنينة الندية، يدخلها في تلك القلوب. فإن الله يسمع لها، ويعلم تطلعها: {وهو السميع العليم}.والإيقاع الرابع يواجه القلوب التي تحتمل تكاليف الإيمان، ومشاق الجهاد، بأنها إنما تجاهد لنفسها ولخيرها ولاستكمال فضائلها، ولإصلاح أمرها وحياتها؛ وإلا فما بالله من حاجة إلى أحد، وإنه لغني عن كل أحد:{ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين}.فإذا كتب الله على المؤمنين الفتنة وكلفهم أن يجاهدوا أنفسهم لتثبت على احتمال المشاق، فإنما ذلك لإصلاحهم، وتكميلهم، وتحقيق الخير لهم في الدنيا والآخرة. والجهاد يصلح من نفس المجاهد وقلبه؛ ويرفع من تصوراته وآفاقه؛ ويستعلي به على الشح بالنفس والمال، ويستجيش أفضل ما في كيانه من مزايا واستعدادات. وذلك كله قبل أن يتجاوز به شخصه إلى الجماعة المؤمنة، وما يعود عليها من صلاح حالها، واستقرار الحق بينها، وغلبة الخير فيها على الشر، والصلاح فيها على الفساد.{ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه}.فلا يقفن أحد في وسط الطريق، وقد مضى في الجهاد شوطًا، يطلب من الله ثمن جهاده؛ ويمن عليه وعلى دعوته، ويستبطئ المكافأة على ما ناله! فإن الله لا يناله من جهاده شيء. وليس في حاجة إلى جهد بشر ضعيف هزيل: {إن الله لغني عن العالمين}. وإنما هو فضل من الله أن يعينه في جهاده، وأن يستخلفه في الأرض به، وأن يأجره في الآخرة بثوابه:{والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون}.فليطمئن المؤمنون العاملون على ما لهُم عند الله، من تكفير للسيئات، وجزاء على الحسنات. وليصبروا على تكاليف الجهاد؛ وليثبتوا على الفتنة والابتلاء؛ فالأمل المشرق والجزاء الطيب، ينتظرانهم في نهاية المطاف. وإنه لحسب المؤمن حتى لو فاته في الحياة الانتصاف.ثم يجيء إلى لون من ألوان الفتنة أشرنا إليه في مطلع السورة: فتنة الأهل والأحباء. فيفصل في الموقف الدقيق بالقول الحازم الوسط، لا إفراط فيه ولا تفريط:{ووصينا الإنسان بوالديه حسنًا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما إليّ مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين}.إن الوالدين لأقرب الأقرباء. وإن لهما لفضلًا، وإن لهما لرحما؛ وإن لهما لواجبًا مفروضًا: واجب الحب والكرامة والاحترام والكفالة. ولكن ليس لهما من طاعة في حق الله. وهذا هو الصراط: {ووصينا الإنسان بوالديه حسنًا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما}.إن الصلة في الله هي الصلة الأولى، والرابطة في الله هي العروة الوثقى. فإن كان الوالدان مشركين فلهما الإحسان والرعاية، لا الطاعة ولا الاتباع. وإن هي إلا الحياة الدنيا ثم يعود الجميع إلى الله.{إليَّ مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون}.ويفصل ما بين المؤمنين والمشركين. فإذا المؤمنون أهل ورفاق، ولو لم يعقد بينهم نسب ولا صهر:{والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين}.وهكذا يعود الموصولون بالله جماعة واحدة، كما هم في الحقيقة؛ وتذهب روابط الدم والقرابة والنسب والصهر، وتنتهي بانتهاء الحياة الدنيا، فهي روابط عارضة لا أصيلة، لانقطاعها عن العروة الوثقى التي لا انفصام لها.روى الترمذي عند تفسير هذه الآية أنها نزلت في سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأمه حمنة بنت أبي سفيان، وكان بارًا بأمه. فقالت: له: ما هذا الدين الذي أحدثت؟ والله لا آكل ولا أشرب حتى ترجع إلى ما كنت عليه أو أموت، فتتعير بذلك أبد الدهر، يقال: يا قاتل أمه. ثم إنها مكثت يومًا وليلة لم تأكل ولم تشرب، فجاء سعد إليها وقال: يا أماه لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسًا نفسًا ما تركت ديني، فكلي إن شئت، وإن شئت فلا تأكلي.فلما أيست منه أكلت وشربت. فأنزل الله هذه الآية آمرًا بالبر بالوالدين والإحسان إليهما، وعدم طاعتهما في الشرك.وهكذا انتصر الإيمان على فتنة القرابة والرحم؛ واستبقى الإحسان والبر. وإن المؤمن لعرضة لمثل هذه الفتنة في كل آن؛ فليكن بيان الله وفعل سعد هما راية النجاة والأمان.ثم يرسم صورة كاملة لنموذج من النفوس في استقبال فتنة الإيذاء بالاستخذاء، ثم الادعاء العريض عند الرخاء. يرسمها في كلمات معدودات، صورة واضحة الملامح بارزة السمات:{ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم أو ليس الله بأعلم بما في صدور العالمين وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين}.ذلك النموذج من الناس، يعلن كلمة الإيمان في الرخاء يحسبها خفيفة الحمل، هينة المؤونة، لا تكلف إلا نطقها باللسان، {فإذا أوذي في الله} بسبب الكلمة التي قالها وهو آمن معافى {جعل فتنة الناس كعذاب الله} فاستقبلها في جزع، واختلت في نفسه القيم، واهتزت في ضميره العقيدة؛ وتصور أن لا عذاب بعد هذا الأذى الذي يلقاه، حتى عذاب الله؛ وقال في نفسه: ها هو ذا عذاب شديد أليم ليس وراءه شيء، فعلام أصبر على الإيمان، وعذاب الله لا يزيد على ما أنا فيه من عذاب؟ وإن هو إلا الخلط بين أذى يقدر على مثله البشر، وعذاب الله الذي لا يعرف أحد مداه.هذا موقف ذلك النموذج من الناس في استقبال الفتنة في ساعة الشدة.{ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم}.إنا كنا معكم. وذلك كان موقفهم في ساعة العسرة من التخاذل والتهافت والتهاوي، وسوء التصوير وخطأ التقدير. ولكن حين يجيء الرخاء تنبث الدعوى العريضة، وينتفش المنزوون المتخاذلون، ويستأسد الضعفاء المهزومون، فيقولون: {إنا كنا معكم}!.{أو ليس الله بأعلم بما في صدور العالمين}.أو ليس يعلم ما تنطوي عليه تلك الصدور من صبر أو جزع، ومن إيمان أو نفاق؟ فمن الذي يخدعه هؤلاء وعلى من يموهون؟{وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين}.وليكشفنهم فيعرفون؛ فما كانت الفتنة إلا ليتبين الذين آمنوا ويتبين المنافقون.ونقف لحظة أمام التعبير القرآني الدقيق وهو يكشف عن موضع الخطأ في هذا النموذج من الناس حين يقول:{جعل فتنة الناس كعذاب الله}.فليست الغلطة أن صبرهم قد ضعف عن احتمال العذاب، فمثل هذا يقع للمؤمنين الصادقين في بعض اللحظات وللطاقة البشرية حدود ولكنهم يظلون يفرقون تفرقة واضحة في تصورهم وشعورهم بين كل ما يملكه البشر لهم من أذى وتنكيل، وبين عذاب الله العظيم؛ فلا يختلط في حسهم أبدًا عالم الفناء الصغير وعالم الخلود الكبير، حتى في اللحظة التي يتجاوز عذاب الناس لهم مدى الطاقة وجهد الاحتمال.إن اللّه في حس المؤمن لا يقوم له شيء، مهما تجاوز الأذى طاقته واحتماله. وهذا هو مفرق الطريق بين الإيمان في القلوب والنفاق.وأخيرا يعرض فتنة الإغواء والإغراء ويعرض معها فساد تصور الذين كفروا للتبعة والجزاء ويقرر فردية التبعة وشخصية الجزاء. وهو المبدأ الإسلامي الكبير، الذي يحقق العدل في أجلى مظاهره، وأفضل أوضاعه:{وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ}.وقد كان الذين كفروا يقولون هذا تمشيا مع تصورهم القبلي في احتمال العشيرة للديات المشتركة والتبعات المشتركة. يحسبون أنهم قادرون على احتمال جريرة الشرك باللّه عن سواهم وإعفائهم منها. ذلك إلى التهكم على قصة الجزاء في الآخرة إطلاقا:{اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ}.ومن ثم يرد عليهم الرد الحاسم، فيرد كل إنسان إلى ربه فردا، يؤاخذه بعمله، لا يحمل أحد عنه شيئا:{وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شيء}.ويجبهم بما في قولتهم هذه من كذب وادعاء:{إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ}.ويحملهم وزر ضلالهم وشركهم وافترائهم، ووزر إضلالهم للآخرين. دون أن يعفي هؤلاء من تبعة الضلال: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ}.ويغلق هذا الباب من أبواب الفتنة فيعلم الناس أن اللّه لا يحاسبهم جماعات. إنما يحاسبهم أفرادا، وأن كل امرئ بما كسب رهين. اهـ.
|